صالح الجعفراوي ناشط شاب دفع حياته ثمنًا لتغطية الحقيقة . في صباحٍ هادئ تحوّل إلى يومٍ دامٍ، دوّى خبر مقتل الناشط الفلسطيني صالح الجعفراوي كالصاعقة على الشارع الغزّي، ليتحوّل اسمه في غضون ساعات إلى رمز جديد للتضحية والشجاعة في وجه واقعٍ معقّد يختلط فيه صوت الحقيقة بأزيز الرصاص.
لم يكن الجعفراوي مجرد ناشط عابر أو متابع للأحداث من خلف الشاشات، بل كان صوتًا ميدانيًا حرًا نقل معاناة الناس وواجه الأخطار بنفسه، حتى لحظة سقوطه في ميدان الاشتباكات التي شهدتها مدينة غزة مؤخرًا.
من هو صالح الجعفراوي؟
صالح الجعفراوي هو ناشط وإعلامي فلسطيني شاب من مدينة غزة، اشتهر بتغطيته الميدانية للأحداث المحلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
عرف عنه شجاعته في نقل الحقيقة من قلب الميدان، ومشاركته في العديد من المبادرات الشبابية والإنسانية الهادفة إلى دعم الفئات المتضررة في القطاع.
كان يؤمن بأن الكلمة الصادقة قادرة على إحداث التغيير، وأن الإعلام الحر هو سلاح المقاومة المدنية في وجه الظلم والانقسام.
في أكتوبر 2025، فقد حياته أثناء تغطيته اشتباكات مسلحة في غزة، ليتحول إلى رمز للشباب الفلسطيني الباحث عن الحقيقة مهما كان الثمن.
ينتمي صالح الجعفراوي إلى جيل الشباب الفلسطيني الذي نشأ في ظل الحصار والانقسام، وتكوّنت شخصيته في بيئة يختلط فيها الأمل بالألم. عرفه كثيرون من خلال نشاطه الواسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان يوثق الأحداث اليومية في غزة، من معاناة العائلات المتضررة، إلى التحركات الشعبية والمبادرات الشبابية، وصولًا إلى تغطية المواجهات الميدانية.
امتاز بخطابه الهادئ وحرصه على نقل الحقيقة كما هي، دون مبالغة أو تحريض، ما جعله محل احترام بين زملائه ومتابعيه الذين رأوا فيه نموذجًا نادرًا للشباب الفلسطيني الملتزم بالمهنية والمصداقية.
اليوم الأخير في حياة الجعفراوي
في صباح الأحد، وبينما كانت مدينة غزة تستيقظ على دوي اشتباكات مسلحة بين عناصر من حركة حماس وعدد من أفراد عائلة دغمش، قرر صالح أن يتوجه إلى موقع الحدث لتغطية ما يجري ميدانيًا.
كانت الاشتباكات تدور في مناطق مكتظة بالسكان، بين وحدة “سهم” التابعة لحماس ومجموعات مسلحة من العائلة، وسط اتهامات متبادلة تتعلق بـ”التعاون مع الاحتلال”، وهي تهم نفتها العائلات بشدة.
بحسب شهود عيان، وصل الجعفراوي إلى المنطقة بعد وقت قصير من اندلاع الاشتباكات، حاملاً كاميرته وهاتفه لتوثيق الحقيقة كما فعل دائمًا. إلا أن الرصاص لم يفرّق بين مقاتل وموثّق، فخلال لحظات فقد الاتصال به، قبل أن تؤكد مصادر محلية نبأ مقتله متأثرًا بإصابته أثناء تغطيته للأحداث.
صدمة وحزن واسع
مع انتشار الخبر، عمّت موجة حزن كبيرة في أوساط النشطاء الفلسطينيين، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصور الجعفراوي وعبارات الوداع. كتب زملاؤه في الميدان أنه كان “صوتًا للحقيقة لا يعرف الخوف”، فيما نعاه المئات بعبارات مؤثرة تعبّر عن عمق الفقدان الذي تركه رحيله المفاجئ.
أعلن والده في منشور مؤلم أنه فقد الاتصال بابنه أثناء تغطيته للأحداث، قبل أن تصله الأخبار المؤكدة بوفاته، قائلاً:
“ابني لم يحمل سلاحًا، بل حمل كاميرته لينقل ما يجري، لكنه لم يعد.”
كلمات الأب اختصرت مأساة جيل كامل من الصحفيين والنشطاء الفلسطينيين الذين يعملون في بيئات محفوفة بالخطر دون حماية قانونية أو ميدانية كافية.
بين الحلم والواقع
لم يكن صالح الجعفراوي ناشطًا سياسيًا بقدر ما كان صوتًا إنسانيًا يسعى لتوثيق معاناة الناس. في منشوراته السابقة، كان كثيرًا ما يتحدث عن حلمه بـ”غزة بلا دماء، وبشوارع مليئة بالأمل بدل الدخان”.
كان يرى في الإعلام المستقل وسيلة لتغيير الوعي ونقل صورة الواقع للعالم الخارجي، خصوصًا في ظل ما يصفه النشطاء بـ”التعتيم الإعلامي” المفروض على القطاع.
رحيله جاء ليعيد طرح سؤال مؤلم:
هل أصبح ثمن قول الحقيقة في فلسطين هو الحياة نفسها؟
حماس والعائلات.. صراع متجدد
حادثة مقتل الجعفراوي لم تأتِ في فراغ، بل في سياق من التوترات الأمنية المتكررة داخل قطاع غزة، حيث تشهد المدينة من حين لآخر اشتباكات بين الأجهزة الأمنية التابعة لحماس وبعض العائلات النافذة.
تعود جذور الخلافات إلى قضايا تتعلق بفرض السيطرة الأمنية، واتهامات بمخالفات جنائية أو تعاون مع الاحتلال، وهي قضايا غالبًا ما تتحول إلى نزاعات مسلحة تهدد السلم الأهلي.
ويرى مراقبون أن هذه الاشتباكات تكشف هشاشة الوضع الداخلي في القطاع، وأن المدنيين والنشطاء غالبًا ما يكونون الضحايا الأبرز لمثل هذه الصراعات، كما حدث مع الجعفراوي الذي وجد نفسه وسط نيران لم يكن طرفًا فيها.
دعوات لفتح تحقيق شفاف
عقب الإعلان عن مقتل الجعفراوي، طالبت منظمات حقوقية فلسطينية، منها مركز الميزان لحقوق الإنسان والمرصد الأورومتوسطي، بفتح تحقيق نزيه ومستقل في الحادثة.
وأكدت هذه المؤسسات أن ما جرى يشكل انتهاكًا لحقوق الإنسان وحرية العمل الإعلامي، مطالبة الجهات المسؤولة بتوفير حماية حقيقية للصحفيين والنشطاء الميدانيين.
كما شددت على ضرورة وقف استخدام القوة داخل المناطق السكنية، داعيةً إلى الحوار كوسيلة لتسوية الخلافات بدلًا من السلاح.
صالح الجعفراوي.. رمز لجيلٍ يبحث عن الحقيقة
رحيل الجعفراوي ترك فراغًا كبيرًا في المشهد الشبابي الفلسطيني، لكنه في المقابل أصبح رمزًا لجيلٍ يرفض الصمت.
فهو يمثّل نموذجًا للشاب الذي لم يتخلّ عن قلمه وعدسته رغم المخاطر، والذي آمن بأن “نقل الحقيقة مقاومة”، كما كتب ذات يوم في إحدى تدويناته.
تحوّل اسمه اليوم إلى شعار يتداوله النشطاء، ووسمًا تضامنيًا على مواقع التواصل، تعبيرًا عن الوفاء له ولمبادئه. كثيرون يرون أن قصته تجسد المأساة الفلسطينية بكل وجوهها: بين الاحتلال والانقسام، بين الحلم والموت، وبين الحرية والقيد.
الإعلام في غزة.. مهنة محفوفة بالمخاطر
قضية الجعفراوي فتحت مجددًا ملف سلامة الإعلاميين في المناطق الخطرة، خاصة في غزة التي تشهد بين الحين والآخر مواجهات مسلحة وأوضاعًا أمنية متوترة.
تقرير لجنة حماية الصحفيين الدولية يشير إلى أن العشرات من الصحفيين والنشطاء الفلسطينيين فقدوا حياتهم خلال تغطية الأحداث في السنوات الأخيرة، سواء خلال القصف الإسرائيلي أو في ظروف داخلية مشابهة.
وتطالب المنظمات الحقوقية بضرورة توفير تدريب أمني ميداني وحماية قانونية للعاملين في المجال الإعلامي، إلى جانب محاسبة كل من يتسبب في تعريضهم للخطر، سواء عن عمد أو نتيجة إهمال.
مقتل صالح الجعفراوي لم يكن مجرد حادث فردي، بل مرآة تعكس واقعًا قاسيًا يعيش فيه الفلسطينيون، حيث يدفع الأبرياء ثمن صراعات لا ناقة لهم فيها.
لكنه أيضًا شهادة على أن الحقيقة تظل أقوى من الرصاص، وأن الكلمة الحرة، وإن أُسكتت جسدًا، تبقى حيّة في ذاكرة الناس.
لقد رحل الجعفراوي، لكن قصته ستبقى تلهم جيلًا جديدًا من الشباب الفلسطيني، الذين يؤمنون بأن واجبهم هو نقل الصورة مهما كانت العواقب، وأن قول الحقيقة في زمن الفوضى هو أعلى أشكال الشجاعة.
في النهاية، ربما لم يدرك صالح وهو يغادر منزله صباح ذلك اليوم أنه يسير نحو قدره الأخير، لكنه بالتأكيد كان يعلم أنه يفعل ما يؤمن به — أن ينقل الحقيقة كما هي، ولو كلّفه ذلك حياته.