هذا التطور أثار قلقًا صحيًا محليًا وإقليميًا، خاصة في الدول المجاورة مثل مصر، حيث حث خبراء الصحة العامة على ضرورة التعرف على طبيعة هذا المرض الحيواني المنشأ، وطرق انتشاره، والإجراءات الوقائية اللازمة لتجنب تفشيه.
ويأتي هذا الرصد الرسمي للإصابة البشرية في شمال إفريقيا كتذكير هام بأهمية اليقظة الوبائية، لا سيما في المناطق الحدودية التي تشهد حركة واسعة للثروة الحيوانية، والتي قد تسهم في انتشار الأمراض بشكل سريع إذا لم تُتخذ الاحتياطات اللازمة.
ما هي “حمى كيو”؟
حمى كيو هي عدوى بكتيرية يسببها نوع من البكتيريا يُعرف باسم “كوكسيلا بورنيتي” (Coxiella burnetii)، وهي من الأمراض الحيوانية المنشأ التي تنتقل بشكل رئيسي من الحيوانات إلى البشر.
يرجع تسمية المرض إلى الحرف “Q”، اختصارًا لكلمة Query، بسبب الغموض الذي أحاط بطبيعة المرض عند اكتشافه لأول مرة في أستراليا خلال ثلاثينيات القرن الماضي.
المستودعات الحيوانية للعدوى
تُعد الأغنام، والماعز، والأبقار المستودعات الرئيسية للبكتيريا. عادةً ما لا تظهر على هذه الحيوانات أعراض واضحة، باستثناء احتمالية حدوث الإجهاض أو الولادات المبكرة. وتتركز أعلى مستويات البكتيريا في منتجات الولادة مثل المشيمة والسائل الأمنيوسي، إضافة إلى الروث والحليب.
طرق انتقال العدوى إلى البشر
العدوى تنتقل إلى البشر بشكل أساسي عبر طريقتين:
استنشاق الهباء الجوي (Aerosols):
تُعد الطريقة الأكثر شيوعًا وخطورة، حيث يمكن للبكتيريا المحمولة جويًا عبر الغبار الملوث بمنتجات ولادة الحيوانات المصابة أن تنتقل إلى الإنسان، خاصة في الحظائر والمزارع. وقد تحمل الرياح هذه الجسيمات لمسافات طويلة.
تناول منتجات الحليب غير المبسترة:
يمكن للعدوى أن تنتقل عبر استهلاك الحليب الخام أو منتجات الألبان غير المبسترة.
الأعراض البشرية
تتراوح أعراض “حمى كيو” بين عدم ظهور أي علامات (إصابات صامتة) وبين أعراض حادة تشمل:
حمى مفاجئة وشديدة قد تستمر لأكثر من أسبوع.
صداع حاد غالبًا خلف العينين.
آلام عضلية وتعب عام شديد.
التهاب رئوي غير نمطي أو التهاب كبدي.
وفي أقل من 5% من الحالات، قد تتطور العدوى إلى الشكل المزمن، الذي يصيب صمامات القلب وقد يؤدي إلى الوفاة إذا لم يُعالج بشكل مناسب.
المخاطر المحتملة على مصر
تزداد المخاوف من انتقال “حمى كيو” إلى مصر بسبب عاملين رئيسيين:
القرب الجغرافي وحركة الثروة الحيوانية:
تقع الزنتان الليبية بالقرب من الحدود الغربية لمصر. ويُعد التهريب غير القانوني للحيوانات الحية عبورًا مهمًا لنقل الأمراض الحيوانية المنشأ، بما في ذلك البكتيريا المسببة للحمى. الحيوانات المصابة التي تدخل بدون رقابة بيطرية قد تنشر العدوى بسرعة في المزارع والأسواق المحلية.
الانتشار التاريخي والجهل التشخيصي:
بكتيريا “كوكسيلا بورنيتي” واسعة الانتشار عالميًا، وقد تمر بعض الحالات البشرية في مصر دون تشخيص صحيح نظرًا لتشابه أعراضها مع الإنفلونزا أو الأمراض الرئوية الأخرى، مما يزيد من احتمالية وجود البكتيريا بالفعل في بعض القطعان الحيوانية.
لذلك، من الضروري رفع اليقظة الصحية في مصر من خلال:
تشديد الرقابة البيطرية على المنافذ الحدودية الغربية.
إجراء مسوحات مصلية دورية للقطعان الحيوانية، خصوصًا الأغنام والماعز المستوردة أو المتنقلة.
زيادة وعي الأطباء البشريين حول اشتباه إصابات “حمى كيو” لدى المرضى الذين يعانون من حمى غير مفسرة، خاصة العاملين في قطاع تربية الحيوانات.
الوقاية والعلاج
تركز الإجراءات الوقائية على حماية الأشخاص الأكثر عرضة للخطر:
التوعية البيطرية: يجب على المزارعين والعاملين في المسالخ والعيادات البيطرية ارتداء معدات الحماية الشخصية مثل الكمامات والقفازات عند التعامل مع الحيوانات أو منتجات ولادتها.
التخلص الآمن: التخلص من منتجات الولادة الملوثة بطريقة آمنة وسريعة.
البسترة: التأكد من استهلاك الحليب ومنتجات الألبان المبسترة فقط.
أما العلاج، فحمى كيو الحادة تستجيب عادةً للمضاد الحيوي دوكسيسيكلين إذا بدأ العلاج مبكرًا، بينما يتطلب الشكل المزمن علاجًا مكثفًا ومركبًا يستمر لعدة أشهر.
تسجيل أول إصابة بشرية في ليبيا ليس مجرد خبر محلي، بل إشارة إقليمية لأهمية برامج الصحة الواحدة (One Health) التي تجمع جهود الصحة البشرية والبيطرية لمواجهة الأمراض الحيوانية المنشأ العابرة للحدود، بما يضمن حماية المجتمعات ويحد من انتشار الأمراض قبل أن تتحول إلى أزمات صحية كبيرة.