العقم عند النساء: تحديد العيب الوراثي الرئيسي المؤثر . يعاني ما يصل إلى 15% من الأزواج في مرحلة ما من حياتهم من مشاكل العقم، وهي من التحديات الصحية التي قد تؤثر على حياتهم الشخصية والعائلية. ورغم التقدم الكبير في علاجات العقم التي تمثل أملًا لكثير من الأزواج، إلا أن نقص المعرفة بشأن الأسباب الدقيقة لهذه المشكلة يمكن أن يؤدي إلى زيادة فترة العلاج وإطالة مدة الانتظار من دون تحسن كبير في الحالة.
من هنا، تتزايد أهمية البحث العلمي الذي يهدف إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء العقم، لتمكين الأطباء والباحثين من توفير حلول وعلاجات فعالة وموجهة وفقًا للسبب الرئيسي للمشكلة.
في هذا السياق، قامت جامعة هلسنكي في فنلندا بإجراء دراسة علمية ضخمة تسعى للكشف عن الأسس الجينية التي قد تقف وراء العقم عند النساء. واستخدمت الجامعة في هذه الدراسة قاعدة بيانات “فينجين” (FinnGen)، والتي تتضمن بيانات جينية وصحية من ملايين الأشخاص.
وركزت الدراسة على مقارنة بيانات أكثر من 22 ألف امرأة خضعت لعلاج العقم مع 200 ألف امرأة أنجبن أطفالاً طبيعيًا، مما منح الباحثين فرصة فريدة لتحديد مناطق جينية مرتبطة بالعقم لدى النساء.
من خلال هذه الدراسة، تمكن الفريق البحثي من تحديد خمس مناطق وراثية تمثل عوامل خطر تساهم في الإصابة بالعقم لدى النساء. وكانت أبرز الاكتشافات التي توصلوا إليها هي الطفرة الجينية في جين يسمى TBPL2. هذه الطفرة الجينية تعتبر الأكثر ارتباطًا بالعقم لدى النساء، وهو اكتشاف علمي قد يغير فهمنا للعوامل الوراثية التي تؤثر في القدرة على الإنجاب.
الأمر الذي يثير الاهتمام هو أن هذه الطفرة الجينية في جين TBPL2 أكثر شيوعًا في فنلندا مقارنة ببقية دول العالم. وقد أظهرت الدراسة أن نسبة الأشخاص الذين يحملون هذا العيب الوراثي في فنلندا هي أعلى بحوالي 40 مرة مقارنة ببقية أنحاء العالم.
حيث وجد العلماء أن حوالي واحد من كل 100 شخص فنلندي يحمل النسخة المتحورة من هذا الجين. هذا يشير إلى أن الطفرة الجينية قد تكون شائعة بين سكان فنلندا بشكل غير متوقع.
وتبين الدراسة أن العيب الجيني في جين TBPL2 لا يسبب العقم إلا في الحالات التي يتم فيها وراثة النسخة غير الوظيفية من الجين من كلا الوالدين، أي أن المشكلة تظهر فقط عندما يحمل كلا الوالدين النسخة المتحورة من هذا الجين. كما أن هذا العيب الجيني لا يؤثر على خصوبة الذكور، بل يتعلق فقط بالعقم لدى النساء.
وتعلق ساني روتسالاينين، المؤلفة الرئيسية للدراسة من معهد الطب الجزيئي في فنلندا (FIMM)، على هذه النتائج قائلة: “أظهرت نتائجنا أن هناك ارتباطًا واضحًا بين الطفرة الجينية في جين TBPL2 ومتوسط عدد الأطفال لدى النساء.”
وتضيف ساني أن النتائج تشير إلى أنه من المحتمل أن يكون هناك حوالي 400-500 امرأة في فنلندا يحملن نسختين من هذا العيب الجيني، مما قد يساهم في فهم أعمق للعوامل الوراثية التي تؤثر في الخصوبة.
وقد يفتح هذا الاكتشاف المجال أمام خيارات علاجية جديدة قد تساعد في حل مشكلة العقم عند النساء اللاتي يعانين من هذه الطفرة الجينية. ويعتقد العلماء أن فهم هذا العيب الجيني يمكن أن يساهم في تطوير علاجات طبية موجهة، وبالتالي تحسين فرص الإنجاب لدى النساء المتأثرات به.
فبمجرد تحديد وجود الطفرة الجينية، قد تكون هناك طرق جديدة لتوجيه العلاج بشكل دقيق، مما يؤدي إلى زيادة فعالية العلاجات المتاحة.
لكن الدراسة لم تتوقف عند تحديد الطفرة الجينية في جين TBPL2 فقط. فقد حددت الدراسة أيضًا مجموعة من المتغيرات الجينية الأخرى التي يمكن أن ترتبط بالعقم عند النساء. وقد تم ربط بعض هذه المتغيرات سابقًا بحالات طبية تساهم في العقم، مثل بطانة الرحم أو متلازمة تكيس المبايض. ومع ذلك، كانت التأثيرات الوراثية لهذه المتغيرات أقل قوة من تأثير الطفرة في جين TBPL2.
ويُعتبر جين TBPL2 من الجينات المنظمة التي تساهم في تنظيم عمل جينات أخرى في المبايض. ووفقًا للعلماء، يبدو أن غياب المنتج الجيني السليم في هذا الجين يمنع نضوج البويضات بشكل طبيعي، مما يسبب مشاكل في الخصوبة ويؤدي إلى العقم. ونتيجة لذلك، يصبح من الضروري توفير العلاج الدقيق الذي يستهدف هذه المشكلة الجينية بشكل خاص.
وفي المرحلة التالية من البحث، يخطط العلماء لمعرفة ما إذا كانت هناك سمات معينة لدى النساء اللاتي يحملن نسختين من الطفرة الجينية التي تساعد في التعرف عليهن بسهولة أثناء زياراتهن للطبيب. ويأمل العلماء أن تكون الاختبارات الجينية التشخيصية وسيلة فعالة لتحديد النساء اللاتي يعانين من هذه الطفرة الجينية، وبالتالي تقديم علاج فعال في وقت مبكر.
من جانب آخر، يوضح العلماء أن هناك حاجة إلى المزيد من البحث الطبي لفهم العوامل الوراثية المرتبطة بالعقم بشكل أفضل. فعلى الرغم من أن هذه الدراسة تمثل خطوة كبيرة نحو فهم العقم من منظور جيني، إلا أن هناك العديد من العوامل الأخرى التي تؤثر في الخصوبة والتي يجب على العلماء دراستها. وبذلك، سيكون البحث المستمر في هذا المجال أساسيًا لتحسين تشخيص وعلاج العقم بشكل عام.
في الختام، يمكن القول أن هذه الدراسة تقدم تقدمًا علميًا هامًا في مجال العقم، وقد تساهم في إحداث تغييرات كبيرة في طرق علاج العقم عند النساء في المستقبل. كما أنها تفتح المجال للبحث الطبي المستقبلي الذي قد يوفر علاجات أكثر دقة وفعالية للأزواج الذين يعانون من مشاكل الخصوبة.