ورغم أن الذهب لا يزال يحافظ على بريقه كأحد أهم الملاذات الآمنة، فإن عوامل اقتصادية وفنية عدة دفعت الأسعار إلى التراجع الطفيف، وسط مراقبة دقيقة من قبل المستثمرين والمتداولين لتصريحات البنك المركزي الأمريكي والتطورات الجيوسياسية العالمية.
الذهب يتراجع بعد القمة التاريخية
فقد انخفض الذهب في المعاملات الفورية بنسبة 0.3% ليسجل 3,753.22 دولارًا للأونصة، بعد أن كان قد حقق أعلى مستوى تاريخي عند 3,790.82 دولارًا يوم الثلاثاء.
كما تراجعت العقود الآجلة تسليم ديسمبر بنسبة 0.8% لتصل إلى 3,785.90 دولارًا. هذا التراجع لم يكن مفاجئًا، حيث لجأ المستثمرون إلى جني الأرباح بعد مكاسب قوية دفعت الأسعار إلى مستويات قياسية.
تصريحات جيروم باول وتأثيرها المباشر
يعود جزء كبير من الضغوط على أسعار الذهب إلى تصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، الذي شدد في خطابه الأخير على ضرورة التوازن بين السيطرة على التضخم من جهة، ومراعاة ضعف سوق العمل من جهة أخرى. هذه التصريحات حملت نبرة حذرة، ولم تقدم إشارات واضحة حول توقيت أو حجم تخفيضات الفائدة المقبلة.
وبحسب تصريحات كيلفن وونج، كبير محللي السوق في “أواندا”، فإن الذهب يمر الآن بمرحلة “ذروة شراء”، ما جعله عرضة لتصحيح طبيعي، خاصة مع خطاب باول الذي وصفه بالمحايد. وأضاف أن التراجع الحالي لا يُعتبر مقلقًا، بل ربما يكون فرصة لبناء مراكز شرائية جديدة على المدى القصير والمتوسط.
توقعات أسعار الفائدة ودورها في تحركات الذهب
ترى الأسواق أن هناك احتمالية قوية لقيام الفيدرالي الأمريكي بتخفيض أسعار الفائدة مرتين إضافيتين خلال العام الجاري، بمقدار 25 نقطة أساس لكل منهما.
وتشير التوقعات إلى أن الاحتمال يقارب 93% في اجتماع أكتوبر المقبل، بينما تصل النسبة إلى 77% في ديسمبر. هذه التوقعات تبقي الذهب في دائرة الاهتمام، إذ إن أي خفض للفائدة يقلل من جاذبية الدولار ويزيد من شهية المستثمرين للذهب كملاذ آمن.
بيانات اقتصادية مرتقبة
في الأفق القريب، تترقب الأسواق صدور تقرير طلبات إعانة البطالة الأسبوعية يوم الخميس، يليه يوم الجمعة مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، وهو المقياس المفضل للتضخم بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. هذه البيانات سيكون لها دور محوري في رسم ملامح تحركات الذهب خلال الفترة المقبلة، إذ إن أي مفاجآت إيجابية أو سلبية قد تؤدي إلى موجات جديدة من الارتفاع أو التراجع.
الأوضاع الجيوسياسية تزيد من تقلبات الأسواق
لم يقتصر تأثير الأسواق على البيانات الاقتصادية فحسب، بل كان للتطورات الجيوسياسية نصيب وافر من التأثير. فقد أصدر حلف شمال الأطلسي (الناتو) تحذيرات قوية لروسيا بشأن التصعيد العسكري، مؤكدًا استعداده لاستخدام كافة الأدوات العسكرية وغير العسكرية للدفاع عن أمنه.
وفي المقابل، حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تخفيف حدة التوتر بتصريحات أشار فيها إلى قدرة أوكرانيا على استعادة أراضيها المحتلة. مثل هذه التصريحات عادة ما تزيد من إقبال المستثمرين على الذهب كأداة تحوط ضد المخاطر السياسية.
أداء المعادن النفيسة الأخرى
لم يكن الذهب وحده من تأثر بموجة التراجع، إذ شهدت باقي المعادن النفيسة أيضًا ضغوطًا سعرية. فقد انخفضت الفضة بنسبة 0.7% لتسجل 43.72 دولارًا للأونصة، بينما تراجع البلاتين بنسبة 0.2% إلى 1475.78 دولارًا، والبلاديوم بنسبة 0.1% ليصل إلى 1218.54 دولارًا. هذه التحركات تؤكد أن الأسواق تمر بحالة من التصحيح العام بعد موجة مكاسب واسعة.
الذهب بين المدى القصير والطويل
رغم التراجع الحالي، إلا أن الاتجاه العام لأسعار الذهب ما زال إيجابيًا على المدى المتوسط والطويل. فالتوقعات بخصوص السياسة النقدية الأمريكية، إلى جانب التوترات الجيوسياسية المستمرة، تمنح الذهب أرضية قوية للبقاء فوق مستويات مرتفعة.
ويرى محللون أن أي انخفاضات حالية قد تُشكل فرصة جديدة للمستثمرين لبناء مراكز شرائية، خاصة في ظل استمرار حالة عدم اليقين التي تسيطر على الاقتصاد العالمي.
الذهب كملاذ آمن في الأزمات
يبقى الذهب، على مر التاريخ، الملاذ الآمن الأكثر جاذبية في أوقات الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية. ومع استمرار التضخم عند مستويات مرتفعة وتذبذب أسواق الأسهم والعملات، يتوقع خبراء أن يستمر الذهب في جذب التدفقات الاستثمارية، حتى وإن شهد بعض التراجعات المرحلية.