فقد أظهرت البيانات تراجعًا طفيفًا في حصة الدولار الأمريكي من الاحتياطيات العالمية المسجلة، مقابل صعود ملموس لليورو، ما يعكس تغيرًا تدريجيًا في ثقة المؤسسات المالية العالمية بالعملة الأمريكية، وسط مناخ مضطرب سياسياً واقتصادياً في الولايات المتحدة.
ووفقًا لتقرير تكوين العملة لاحتياطيات النقد الأجنبي الرسمية (COFER) الصادر عن صندوق النقد الدولي، فقد تراجعت حصة الدولار الأمريكي إلى 57.7% من إجمالي الاحتياطيات العالمية خلال الربع الأول من عام 2025، بعدما كانت 57.8% في نهاية عام 2024. في المقابل، ارتفعت حصة اليورو من 19.8% إلى 20.1%، مسجلةً أعلى مستوياتها منذ أواخر عام 2022، مما يعكس تنامي الثقة بالعملة الأوروبية وسط حالة من الضبابية التي تحيط بالدولار.
أسباب التراجع في حصة الدولار الأمريكي
يرى محللون أن هذا التراجع الطفيف في حصة الدولار لا يمكن فصله عن الأداء الاقتصادي والسياسي الداخلي في الولايات المتحدة. فقد شهد الربع الأول من العام الجاري انخفاضًا في سعر صرف الدولار بنحو 4%، مدفوعًا بتقلبات سياسية حادة عقب عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى المشهد السياسي، وإطلاقه حزمة من السياسات المثيرة للجدل، لا سيما في مجالات التجارة والاقتصاد.
وقد تجلت آثار هذه السياسات بشكل أكبر في الربع الثاني من العام، حيث فقد الدولار أكثر من 7% من قيمته بعد إعلان ما يُعرف إعلاميًا بـ”يوم التحرير”، وهو اليوم الذي كشف فيه ترامب عن حزمة رسوم جمركية شاملة استهدفت عدة شركاء تجاريين رئيسيين، من بينهم الصين والبرازيل والاتحاد الأوروبي.
ورغم أن بعض هذه الإجراءات تم تعليقها لاحقًا، إلا أن الرسالة التي تلقتها الأسواق العالمية كانت واضحة: الولايات المتحدة في طريقها لتبني نهج حمائي جديد، وهو ما يهدد استقرار النظام النقدي العالمي الذي تقوده العملة الأمريكية.
اليورو: المستفيد الأول
في ظل هذه المعطيات، برز اليورو كبديل أكثر استقرارًا نسبيًا، خاصة في أعين صُنّاع القرار النقدي في البنوك المركزية الكبرى. ومع تحسن أداء الاقتصادات الأوروبية الكبرى، لا سيما ألمانيا وفرنسا، وارتفاع مستويات النمو بمنطقة اليورو بشكل طفيف، باتت العملة الأوروبية تحظى بقدر أكبر من الثقة. وبلغت المطالبات المقومة باليورو حوالي 2.3 تريليون دولار، بزيادة 2.6% مقارنة بالربع السابق، ما يعزز مكانتها كأحد أهم العملات العالمية.
وفي المقابل، ورغم تراجع الحصة النسبية للدولار، ارتفعت المطالبات المقومة به بنسبة 1.4% خلال نفس الفترة لتصل إلى 6.72 تريليون دولار. لكن هذه الزيادة لم تكن كافية لمعادلة الصعود النسبي للعملات الأخرى، وعلى رأسها اليورو واليوان الصيني.
تعدد الأقطاب النقدية.. هل يقترب؟
تقرير صندوق النقد الدولي لم يغفل الحديث عن التغيرات الهيكلية في النظام النقدي العالمي. وأشار إلى أن التذبذب في أسعار الصرف ليس العامل الوحيد الذي يؤثر على قرارات تخصيص الاحتياطيات، بل تلعب عوامل أخرى دورًا حاسمًا، مثل الاستقرار السياسي، والسياسات النقدية، والجدارة الائتمانية للدول المصدِّرة للعملات.
وبينما يرى البعض أن العالم بدأ فعليًا في التحول نحو نظام نقدي متعدد الأقطاب، يعتبر آخرون هذا الحديث سابقًا لأوانه. إذ أن الدولار لا يزال يمثل العملة الاحتياطية الأولى بفارق كبير، كما أن استبداله يتطلب تغييرات هيكلية في آليات التجارة الدولية، وأسواق السندات، والبنية التحتية المالية العالمية.
السياسات الأمريكية تُربك الأسواق
الشكوك المتزايدة حول توجهات السياسة الأمريكية، خاصة في ظل الصراعات الداخلية وعودة ترامب، كانت من أبرز العوامل التي أثّرت على ثقة المستثمرين في الدولار. فقد أدت تصريحاته المتشددة بشأن الحروب التجارية، وخطواته التصعيدية تجاه شركاء اقتصاديين تقليديين، إلى رفع مستوى المخاطرة المرتبط بالدولار.
ويُذكر أن ترامب كان قد وصف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بـ”العائق الأساسي” أمام تحقيق انتعاش اقتصادي، في إشارة إلى سياسة رفع أسعار الفائدة التي تبنتها إدارة البنك المركزي سابقًا. كما ألمح إلى إمكانية التدخل المباشر في السياسة النقدية، ما زاد من حالة القلق في الأسواق العالمية.
ماذا يعني ذلك لمصر والدول النامية؟
بالنسبة للدول النامية، التي تعتمد في جزء كبير من احتياطاتها على الدولار الأمريكي، قد يُعد هذا التراجع مؤشرًا يستدعي إعادة النظر في سياسات تنويع الاحتياطيات النقدية. فالتقلبات المستمرة في الدولار تفرض على هذه الدول تحديات كبيرة في تسعير السلع الأساسية، وسداد القروض الدولية، والحفاظ على استقرار عملاتها المحلية.
ومع ارتفاع الفوائد الأمريكية وتباطؤ تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الأسواق الناشئة، قد تلجأ هذه الدول إلى تعزيز احتياطاتها من العملات الأخرى، مثل اليورو أو اليوان أو حتى الذهب، كجزء من استراتيجية تنويع أكثر أمانًا.
رغم أن التغيرات التي سجلها صندوق النقد الدولي في حصة الدولار ضمن الاحتياطيات العالمية تبدو ضئيلة من الناحية الرقمية، فإنها تعكس اتجاهًا طويل الأمد نحو إعادة ترتيب الأولويات العالمية فيما يتعلق بالثقة في العملات الدولية. وبينما لا يزال الدولار يحتفظ بهيمنته، فإن الرياح بدأت تهبّ من اتجاهات متعددة، لتُشكّل تدريجيًا معالم نظام مالي عالمي أكثر تنوعًا وتعددًا في أقطابه.
في ضوء هذه المتغيرات، تظل أعين المستثمرين والبنوك المركزية مفتوحة على المشهد السياسي الأمريكي، فهو العامل الأبرز الذي قد يُحدد مستقبل الدولار كعملة عالمية مهيمنة في السنوات المقبلة.