التغذية الحديثة والأمراض العصبية فهم العلاقة المعقدة . في السنوات الأخيرة، تزايد الاهتمام العلمي بدراسة العلاقة بين التغذية الحديثة وصحة الدماغ، خصوصًا مع الانتشار الواسع للأطعمة المصنّعة والمعبأة في مختلف المجتمعات.
إن التحولات الكبيرة التي طرأت على مكونات الغذاء وطرق معالجته خلال العقود الأخيرة دفعت العلماء إلى التساؤل عن مدى تأثير هذه التغيرات على صحة الجهاز العصبي، وما إذا كانت تسهم في زيادة انتشار بعض الاضطرابات النفسية والعصبية.
تتناول العديد من الدراسات الحديثة بشكل خاص الأطعمة فائقة المعالجة (Ultra-Processed Foods) أو ما يُعرف اختصارًا بـ UPFs، والتي تشمل أطعمة مثل رقائق البطاطا، ألواح البروتين، والوجبات السريعة. هذه الأطعمة، التي باتت تحظى بشعبية واسعة حول العالم، لا تتميز فقط بتركيباتها الغذائية المشكوك فيها، بل وأيضًا بارتباطها بمخاطر صحية متعددة.
وقد حذرت مراجعة علمية حديثة من أن استهلاك هذه الأطعمة بشكل كبير قد يزيد من خطر الإصابة بأمراض عقلية مزمنة مثل الاكتئاب، القلق، الخرف، وربما حتى اضطرابات طيف التوحد.
ولكن المخاطر لا تقتصر على تركيبة الطعام فقط. كشفت الدراسة أيضًا عن وجود صلة مقلقة بين استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة وانتشار جسيمات البلاستيك الدقيقة في الجسم، والتي تصل حتى الدماغ.
هذه الجسيمات المجهرية تُعد من الملوثات البيئية الناشئة التي تدخل إلى الجسم عبر الطعام خاصةً من خلال عمليات التعبئة والتغليف. ويشير الباحثون إلى أن الأطعمة المعالجة أكثر عرضة للتلوث بهذه الجسيمات مقارنة بالأطعمة الطازجة، مما يجعلها تهديدًا حقيقيًا لصحة الدماغ.
يُعد الحاجز الدموي الدماغي (Blood-Brain Barrier) خط الدفاع الأساسي الذي يحمي الدماغ من دخول المواد الضارة. إلا أن الدراسات أثبتت قدرة الجسيمات البلاستيكية الدقيقة على عبور هذا الحاجز والتراكم في أنسجة الدماغ بمستويات قد تكون ضارة.
يقول الدكتور نيكولاس فابيانو من جامعة أوتاوا، أحد معدي الدراسة: “نرصد اليوم تركيزات مرتفعة من هذه الجسيمات في الأطعمة فائقة المعالجة، وهذا الأمر يثير القلق بسبب قدرتها على التراكم داخل الدماغ والتأثير على صحته”.
من جانبه، أشار الدكتور وولفغانغ ماركس من جامعة ديكين إلى وجود تداخل كبير في الآثار السلبية التي تُحدثها الجسيمات البلاستيكية الدقيقة والأطعمة المصنّعة على الدماغ. كلاهما يساهم في إثارة الالتهابات، ويزيد من الإجهاد التأكسدي، ويؤدي إلى اختلال النواقل العصبية في الدماغ، وهي عوامل معروفة مرتبطة بتدهور الصحة النفسية والذهنية.
ووفقًا للمراجعة الشاملة للدراسات التي تناولت هذه العلاقة، فإن الأشخاص الذين يتناولون كميات كبيرة من الأطعمة فائقة المعالجة تزيد لديهم احتمالات الإصابة بالاكتئاب بنسبة 22%، والقلق بنسبة 48%، واضطرابات النوم بنسبة 41%.
ولا يقتصر تأثير هذه الأطعمة الضار على الدماغ فقط، بل يمتد إلى الجهاز الهضمي، إذ يبدأ الضرر في الأمعاء. فاختلال توازن ميكروبيوم الأمعاء شائع لدى مستهلكي الأطعمة المصنعة، وهذا الاختلال قد يؤدي إلى اضطراب في محور الأمعاء-الدماغ، وهو المسار الحيوي الذي يؤثر على المزاج والسلوك من خلال تفاعلات معقدة بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي المركزي.
إضافة إلى ذلك، تحتوي هذه الأطعمة غالبًا على محليات صناعية ومعادن ثقيلة مثل الزئبق والرصاص، والتي يمكن أن تضعف الاتصال العصبي وتفاقم الأعراض النفسية والعصبية. المعادن الثقيلة، على وجه الخصوص، ترتبط بتلف الخلايا العصبية وزيادة مخاطر الإصابة بأمراض عقلية مثل الخرف واضطرابات التوحد.
وفي دراسة تشريحية حديثة أجريت على 54 دماغًا بشريًا، اكتشف الباحثون وجود جسيمات بلاستيكية دقيقة في جميع العينات. والأكثر إثارة للقلق أن التركيزات كانت أعلى بعشرة أضعاف في أدمغة الأشخاص المصابين بالخرف مقارنة بالأشخاص الأصحاء، مما يدعم النظرية القائلة بأن هذه الجسيمات قد تلعب دورًا في تطور الأمراض العصبية التنكسية.
أما بخصوص اضطرابات التوحد، فتشير الأدلة العلمية إلى احتمال ارتباطها غير المباشر باضطراب ميكروبيوم الأمعاء والتأثيرات الجينية الناتجة عن استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة، بالإضافة إلى الأثر السام للمعادن الثقيلة على الدماغ النامي. وتظل هذه العلاقة معقدة وتتطلب مزيدًا من الأبحاث لفهم كيفية تأثير التغذية الملوثة على التطور العصبي.
لمواجهة هذه المخاطر، اقترح معدو المراجعة العلمية تطوير مؤشر للجسيمات البلاستيكية الدقيقة الغذائية (Dietary Microplastic Index – DMI)، لتقييم مدى تعرض الإنسان للبلاستيك الدقيق من الطعام الذي يستهلكه.
إضافة إلى ذلك، تحدث الدكتور ستيفان بورنشتاين عن إمكانية استخدام تقنية طبية حديثة تسمى فصل مكونات الدم (Apheresis) لإزالة الجسيمات البلاستيكية من الجسم، وهو إجراء قد يشكل أملًا في تخفيف الأضرار الصحية المحتملة الناتجة عن هذه الملوثات.
ويظهر جليًا أن التغيرات التي طرأت على أنماط التغذية الحديثة لا تؤثر فقط على الصحة البدنية، بل تمتد لتشمل الصحة العقلية والدماغية. لذلك، من الضروري توخي الحذر في اختيار نوعية الأطعمة المستهلكة والحد من تناول الأطعمة فائقة المعالجة قدر الإمكان.
بالإضافة إلى تشجيع المزيد من الأبحاث لفهم العلاقة بين التغذية وصحة الدماغ بشكل أدق. كما يتطلب الأمر سياسات صحية عامة تسعى للحد من التلوث الغذائي وحماية المستهلكين من التعرض لجسيمات البلاستيك الدقيقة وغيرها من المواد الضارة.