الاقتصاد الأمريكي يواجه زيادة جديدة في مستويات التضخم . سجلت الولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعًا جديدًا في مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) خلال شهر سبتمبر (أيلول)، حيث زادت الأسعار بنسبة 0.3% على أساس شهري، مما رفع معدل التضخم السنوي إلى 3% مقارنة بـ2.9% في أغسطس الماضي.
وبهذا تكون البلاد قد سجلت أعلى مستوى تضخم منذ يناير (كانون الثاني) 2025، وفقًا لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، في وقت لا تزال فيه الأسواق تراقب بحذر تحركات الأسعار والسياسات النقدية المقبلة.
البنزين يقود الارتفاع مجددًا
بحسب تفاصيل التقرير، فإن أسعار البنزين كانت العامل الأكبر في هذا الارتفاع، بعدما شهدت زيادة ملحوظة نتيجة ارتفاع الطلب الموسمي وتقلبات أسعار النفط العالمية. كما ساهمت أسعار الغذاء والإسكان والكهرباء بقدر أقل في رفع المؤشر العام، إلى جانب تأثير التعريفات الجمركية المفروضة على بعض السلع المستوردة، ما زاد من تكلفة الإنتاج والنقل.
وتشير التحليلات إلى أن أسعار الطاقة، رغم تراجعها في بعض الفترات السابقة، لا تزال تلعب الدور الأكبر في توجيه التضخم في الولايات المتحدة، نظرًا لاعتماد العديد من القطاعات الصناعية والخدمية على الوقود كمصدر رئيسي للتشغيل والنقل.
نتائج أقل من التوقعات
ورغم الارتفاع الملحوظ في معدل التضخم، فإن الأرقام جاءت أقل قليلًا من توقعات الاقتصاديين، الذين كانوا يتوقعون زيادة شهرية قدرها 0.4% وسنوية بنسبة 3.1%. ومع ذلك، يرى الخبراء أن هذه البيانات تعكس استمرار الضغوط التضخمية في الاقتصاد الأمريكي بوتيرة أسرع مما كانت تأمل به الأسواق أو مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي).
ويشير بعض المحللين إلى أن هذه الفجوة بين التوقعات والنتائج الفعلية لا تعني بالضرورة تحسن الوضع، بل قد تدل على مرحلة تباطؤ نسبي في وتيرة الارتفاع، لكنها لا تكفي لتأكيد بدء انحسار التضخم بشكل مستدام.
التضخم والخطط النقدية للفيدرالي
يأتي هذا التقرير في وقت حساس، إذ يعيد تسليط الضوء على سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المتعلقة بأسعار الفائدة. فمنذ مطلع عام 2024، يتبنى البنك المركزي نهجًا متوازنًا بين كبح التضخم وتحفيز النمو، من خلال رفع أسعار الفائدة تدريجيًا ثم تثبيتها عند مستويات مرتفعة لفترة أطول.
ويعتقد عدد من الخبراء أن استمرار معدل التضخم عند مستويات قريبة من 3% قد يدفع الفيدرالي إلى تأجيل أي خفض محتمل للفائدة حتى النصف الثاني من عام 2026، خصوصًا إذا لم تظهر مؤشرات قوية على تراجع الأسعار في قطاعات الطاقة والإسكان.
تأجيل التقرير وتأثيراته الواسعة
اللافت في تقرير سبتمبر أن نشره تأخر عن موعده الأصلي، إذ كان من المفترض صدوره في 15 أكتوبر (تشرين الأول)، لكن إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية مطلع الشهر تسبب في تأجيل إصدار بيانات رسمية عدة، من بينها تقرير التضخم. هذا التأجيل زاد من ترقب الأسواق والمستثمرين، الذين يعتمدون على البيانات الرسمية لاتخاذ قراراتهم المتعلقة بالاستثمار في الأسهم والسندات والسلع.
كما يأتي صدور التقرير في فترة حساسة للغاية، إذ سيتم استخدام نتائجه في تعديل معاشات الضمان الاجتماعي لعام 2026، وفقًا لمعدل التضخم المسجل. وهذا يعني أن ملايين الأمريكيين من أصحاب المعاشات والمتقاعدين قد يحصلون على زيادة تلقائية في رواتبهم الشهرية، تعرف باسم تعديل تكلفة المعيشة (COLA)، وهي خطوة تعتمدها الحكومة لمساعدة المواطنين على مواجهة ارتفاع الأسعار.
انعكاسات على الأسواق والاقتصاد
بعد صدور البيانات، شهدت الأسواق المالية الأمريكية تحركات متباينة، إذ ارتفعت عوائد السندات قصيرة الأجل بشكل طفيف، بينما سجلت الأسهم أداءً متراجعًا في جلسة التداول التالية. ويُرجع المستثمرون هذا التذبذب إلى حالة عدم اليقين بشأن الخطوة التالية للفيدرالي، في وقت يحاول فيه الاقتصاد الأمريكي الحفاظ على وتيرة نمو مستقرة دون الدخول في حالة ركود.
في المقابل، يرى بعض الاقتصاديين أن التضخم الحالي، رغم ارتفاعه، يبقى أقل حدة مقارنة بالسنوات السابقة، حين تجاوزت المعدلات 8% في أعقاب أزمة ما بعد الجائحة وارتفاع أسعار الطاقة عالميًا. إلا أن استمرار التضخم فوق المستوى المستهدف البالغ 2% يبقى مصدر قلق لصناع القرار، خصوصًا مع اقتراب موسم الإنفاق الاستهلاكي في نهاية العام.
تأثيرات على المواطن الأمريكي
من الناحية المعيشية، يشعر المواطن الأمريكي بتأثير التضخم في تفاصيل حياته اليومية، بدءًا من أسعار الوقود والغذاء وصولًا إلى فواتير الكهرباء والإيجارات. فارتفاع الأسعار بنسبة 3% سنويًا يعني زيادة تدريجية في تكلفة المعيشة، ما يدفع الأسر إلى تعديل أنماط إنفاقها وإعادة النظر في أولوياتها.
في هذا السياق، تؤكد دراسات اقتصادية أن الطبقة المتوسطة هي الأكثر تأثرًا بالتضخم المستمر، نظرًا لاعتمادها على الدخل الثابت وارتفاع التكاليف الشهرية الأساسية. كما أن ارتفاع الأسعار قد يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية، مما يضغط على قطاع التجزئة ويبطئ النمو في بعض القطاعات غير الحيوية.
رغم التراجع النسبي في حدة التضخم مقارنة بذروته قبل عامين، إلا أن الخبراء يرون أن التحدي الأكبر أمام الإدارة الأمريكية هو تحقيق توازن دقيق بين استقرار الأسعار واستمرار النمو الاقتصادي. فالتشديد المفرط في السياسة النقدية قد يؤدي إلى ركود، بينما التراخي في مواجهة التضخم قد يرسخ الأسعار المرتفعة لفترة أطول.
ويرى بعض المحللين أن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في رسم ملامح الاقتصاد الأمريكي لعام 2026، خصوصًا مع ترقب الأسواق لقرارات الفيدرالي بشأن الفائدة، ومراقبة تأثير السياسات المالية الحكومية الجديدة بعد تجاوز أزمة الإغلاق الجزئي.
يُظهر ارتفاع التضخم الأمريكي في سبتمبر أن الاقتصاد لا يزال يواجه ضغوطًا سعرية متواصلة رغم جهود كبحها. وبينما جاءت الأرقام دون التوقعات بقليل، فإنها تذكّر بأن الطريق نحو الاستقرار الكامل ما زال طويلاً. ومع ارتباط معدلات التضخم بمعاشات الضمان الاجتماعي وأسعار الفائدة، فإن تأثير هذا الارتفاع سيمتد إلى كل فئات المجتمع الأمريكي خلال العام المقبل.
في النهاية، يبقى السؤال الأبرز: هل يتمكن الاحتياطي الفيدرالي من كبح التضخم دون أن يعرقل النمو؟ الإجابة ستتضح في الشهور القادمة، لكن المؤكد أن معركة الأسعار في الاقتصاد الأمريكي لم تنتهِ بعد.
